حس بذلك الألم الذي يملأ ملامح وجهها, قلبي ينفطر حزنا أمام ذلك الشيب الذي يعلو رأسها, وأمام ذلك الجسد المنهك, أراقب تحركاتها من بعيد, هي لا تراني ,
لأنها لا تحس بتلك النظرات, التي تغرق بالدموع, ليس عطفا بل حبا يقتلني من الداخل, تجري من هنا إلى هناك , وتارة أخرى تخرج منديلا أبيض,تنشف به ذلك العرق
المتصبب من جبينها ,وتمسح معه كل ذلك العناء الذي ألمّ بها, في ذلك اليوم كانت ليلة طويلة للغاية, ليلة لم يكُن لها نهاية .
ظلت تتظاهر بالقوة , رغم ذلك العياء الذي يشتتها, ورجلاها تتمايلان يمينا ويسارا بحركة لا إرادية تصدران منهما , يداها ترتعشان , وقلبها يخفق بشدة,
أسمع نبضاته , وأحسها من على خطوات من مكاني, حيث أنا جاثم أرتشف فنجان قهوة دافئ, بعد يوم شاق من العمل ,
هنا أحس براحة عميقة تسكنني في هذا المكان الغابر.
لا أدري مالذي يشدني إليه, شيء غريب يخبرني, أن هذا المكان هو جزء مني , ربما لأنه جمعني بهذه السيدة التي تذكرني بأمي؛
أمي التي كانت تشبهها إلى حد كبير, في تواضعها وتحملها ,كانت امراة شريفة, تشقى لتوفر لنا لقمة عيش كريمة ,
بعدما رحل أبي وترك أمي في منتصف الطريق تُكمل رحلتها وحيدة في تربيتنا ... كلما تذكرت أمي خفق قلبي بشدة , وكلما تذكرت أبي توقف قلبي عن النبض .
تناقضات كثيرة , تثقلني تُرهق كاهلي ,كلما تذكرت بعض الأمور , التي لم يكُن علي تذكرها, لكنها تلاحقني أينما آرتحلت ,
لتذكرني بأضْنى الذكريات التي تُبكيني من الداخل, لأحملها معي في كل المواسم , وكل موسم يحل هو بمثابة مولد جديد لها بداخلي ..
آرتشفت فنجان القهوة بالكامل , لم يتبقى سوى آثار ملامح آمرأة تعيسة في طريقها إلي , لم أظن يوما آن قارئة الفنجان لها وجود من الأساس ,
إلا في خيال الأشخاص المتوهمين, الذين يعيشون على وقع الخيال, وينسجون أحلامهم , على توقعات وليدة تكهنات تلك السيدة الغريبة لطالما أقنعت نفسي أن كل ذلك ما هو إلا محض تهيئات لا أكثر , لكن لسوء الحظ أن الكثير من التائهين في هذا العالم الواقعي ,
يجدونه حقيقة لا جدال فيها, وملاذا لهم ..
أخرجت قطع من النقود من جيبي, وطرحتها فوق الطاولة, وبينما كنت أحاول النهوض , قدمت نحوي تلك المرأة المسنة , والتعب قد نال منها,
قالت بنبرة يعلوها الألم ياولدي ؛ هل تريد تناول بعض من قطع الحلوى , لقد حظرتها قبل قليل ..
كنت في عجلة من أمري , لكن ذلك لم يمنعني من المكوث لمزيد من الوقت بالرغم من ذلك جلست , لم أدري مالذي حلّ بي ساعتها ,
وقع كلماتها كان له سحر خاص على مسامع أذني , كانت كالبلسم الذي ضمد كل جروحي في لحظة آنسحاب , آنسحاب من نفسي الذي تركتها هنا في هذا المكان المعتم ..
لتعيدني إليه مرة ثانية تلك الكلمة التي جاءت متأخرة بعد آنتظار دام طويلا وترقب مستمر , كنت قد نسيت تلك العبارة التي تناديني بها أمي
يا ولدي
ياه ..!
ما أجملها من كلمة عندما تخرج من بين شفتيك أنتِ يا أمي , وما أتعسني اليوم وأنا أعيش على أمل آلتقاطها, من أم بديلة أرسلها لي القدر في لحظة حنين إلى صوتك ..
- قلت بصوت هادئ من فضلك..
- حسنا يا ولدي دقيقة وأعود..
أخرجت سيجارة من جيب سُترتي , وأشعلتها , وبعد لحظات معدودة , جاءت محملة بطبق من الحلوى , كانت تبدو شهية, رائحتها تذكرني, برائحة أيادي أمي ..
نفس الرائحة ونفس الطعم تناولت قطعتين وسددت الحساب ونهضت من مكاني وبينما أنا في طريقي للخارج آصطدمت بوجه أمي .
منقول من ستار تايمز
لقاء على حافة الوداع
12-25-2019, 09:20 PM
